فصل: ما وقع من أحداث سنة ثلاث وستين وستمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ أبي الفداء (نسخة منقحة)



.ما وقع من أحداث سنة إحدى وستين وستمائة:

ثم دخلت سنة إحدى وستين وستمائة:
ذكر مسير الملك الظاهر إلى الشام:
في هذه السنة، في حادي عشر ربيع الآخر، سار الملك الظاهر بيبرس من الديار المصرية إلى الشام، فلاقته والدة الملك المغيث عمر صاحب الكرك بغزة، وتوثقت لابنها الملك المغيث من الملك الظاهر بالأمان، وأحسن إليها، ثم توجهت إلى الكرك، وتوجه صحبتها شرف الدين الجاكي المهمندار، يرسم حمل الإقامات إلى الطرقات، برسم الملك المغيث، ثم سار الملك الظاهر من غزة ووصل إلى الطور، في ثاني عشر جمادى الأولى من هذه السنة، ووصل إليه على الطور الأشرف موسى صاحب حمص، في نصف الشهر المذكور، فأحسن إليه الملك الظاهر وأكرمه.
ذكر حضور الملك المغيث صاحب الكرك وقتله واستيلاء الملك الظاهر بيبرس على الكرك:
وفي هذه السنة كان مقتل الملك المغيث فتح الدين عمر ابن الملك العادل أبي بكر ابن الملك الكامل محمد ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، صاحب الكرك، وسببه أنه كان في قلب الملك الظاهر بيبرس منه غيظ عظيم، لأمور كانت بينهما، قيل إن المغيث المذكور أكره امرأة الملك الظاهر بيبرس، لما قبض المغيث على البحرية. وأرسلهم إلى الناصر يوسف صاحب دمشق، وهرب الملك الظاهر بيبرس المذكور، وبقيت امرأته في الكرك، والله أعلم بحقيقة ذلك، وكان من حديث مقتله، أن الملك الظاهر بيبرس مازال يجتهد على حضور المغيث المذكور، وحلف لوالدته على غزة كما تقدم ذكره، وكان عند المغيث شخص يسمى الأمجد، وكان يبعثه في الرسالة إلى الملك الظاهر، فكان الظاهر يبالغ في إكرامه وتقريبه، فاغتر الأمجد بذلك، وما زال على مخدومه الملك المغيث، حتى أحضره إلى الملك الظاهر.
حكى لي شرف الدين بن مزهر، وكان ابن مزهر المذكور، ناظر خزانة المغيث.
قال: لما عزم المغيث على التوجه إلى خدمة الملك الظاهر، لم يكن قد بقي بخزانته شيء من المال، ولا القماش، وكان لوالدته حواصل بالبلاد، فبعناها بأربعة وعشرين ألف درهم، واشترينا باثني عشر ألف درهم خلعاً من دمشق، وجعلنا في صناديق الخزانة، الاثني عشر الألف الأخرى، ونزل المغيث من الكرك وأنا والأمجد وجماعة من أصحابه معه، في خدمته.
قال: وشرعت البريدية تصل إلى الملك المغيث في كل يوم بمكاتبات الملك الظاهر، ويرسل صحبتهم مثل غزلان ونحوها، والمغيث يخلع عليهم، حتى نفد ما كان بالخزنة من الخلع، ومن جملة ما كتب إليه في بعض المكاتبات، المملوك ينشد في قدوم مولانا:
خليلي هل أبصرتما أو سمعتما ** بأكرم من مولى تمشى إلى عبد

قال: وكان الخوف في قلب المغيث شديداً من الملك الظاهر.
قال ابن مزهر المذكور: ففاتحني في شيء من ذلك بالليل.
فقلت له: احلف إلي أنك لا تقول للأمجد ما أقوله لك حتى أنصحك، فحلف لي.
فقلت له: اخرج الساعة من تحت الخام، واركب حجرتك النجيلة، ولا يصبح لك الصباح إلا وأنت قد وصلت إلى الكرك، فتعصى فيه، ولا تفكر بأحد.
وقال ابن مزهر: فغافلني وتحدث مع الأمجد في شيء من ذلك.
فقال له الأمجد: هذا رأى ابن مزهر إياك من ذلك.
وسار المغيث حتى وصل إلى بيسان، فركب الملك الظاهر بعساكره والتقاه في يوم السبت السابع والعشرين من جمادى الأولى من هذه السنة، فلما شاهد المغيث الملك الظاهر، ترجل، فمنعه الملك الظاهر وأركبه وساق إلى جانبه، وقد تغير وجه الملك الظاهر، فلما قارب الدهليز، أفرد الملك المغيث عنه وأنزله في خيمة وقبض عليه، وأرسله معتقلاً إلى مصر، فكان آخر العهد به.
قيل أنه حمل إلى امرأة الملك الظاهر بيبرس بقلعة الجبل، فأمرت جواريها فقتلته بالقباقيب، ثم قبض الملك الظاهر على جميع أصحاب المغيث، ومن جملتهم ابن مزهر المذكور، ثم بعد ذلك أفرج عنهم، انتهى كلام ابن مزهر.
ولما التقى الملك الظاهر ببيرس الملك المغيث المذكور وقبض عليه، أحضر الفقهاء والقضاة وأوقفهم على مكاتبات من التتر إلى الملك المغيث، أجوبة عن ما كتب إليهم به في أطماعهم في ملك مصر والشام، وكتب بذلك مشروح، وأثبت على الحكام، وكان للملك المغيث المذكور ولداً يقال له الملك العزيز، أعطاه الملك الظاهر إقطاعاً بديار مصر، وأحسن إليه، ثم جهز الملك الظاهر بدر الدين البيسري الشمسي، وعز الدين أستاذ الدار إلى الكرك، فتسلماها في يوم الخميس الثالث والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة، أعني سنة إحدى وستين وستمائة، ثم سار الملك الظاهر ووصل إلى الكرك، ورتب أمورها، ثم عاد إلى الديار المصرية، فوصل إليها في سابع عشر رجب من هذه السنة.
ذكر الإغارة على عكا وغيرها:
وفي هذه السنة لما كان الملك الظاهر نازلاً على الطور، أرسل عسكراً هدموا كنيسة الناصرة، وهي من أكبر مواطن عبادات النصارى، لأن منها خرج دين النصرانية، وأغاروا على عكا وبلادها، فغنموا وعادوا، ثم ركب الملك الظاهر بنفسه وجماعة اختارهم، وأغار ثانياً على عكا وبلادها وهدم برجاً كان خارج البلد، وذلك عقيب إغارة عسكره وهدم الكنيسة الناصرة.
ذكر القبض على من يذكر:
وفيها بعد وصول الملك الظاهر بيبرس إلى مصر واستقراره في ملكه، في رجب، قبض على الرشيدي، ثم قبض في ثاني يوم على الدمياطي والبرلي، وقد تقدمت أخبار البرلي المذكور.
ذكر وفاة الأشرف صاحب حمص:
وفي هذه السنة بعد عود الملك الأشرف صاحب حمص موسى ابن الملك المنصور إبراهيم ابن الملك المجاهد شيركوه بن ناصر الدين محمد بن شيركوه بن شاذي، من خدمة الملك الظاهر بيبرس إلى حمص، مرض واشتد به المرض، وتوفي إلى رحمة الله تعالى، وأرسل الملك الظاهر وتسلم حمص في ذي القعدة من هذه السنة، أعني سنة إحدى وستين وستمائة، وهذا الملك الأشرف موسى هو آخر من ملك حمص من بيت شيركوه، وقد تقدمت أخبار الأشرف موسى المذكور، وأخذ الملك الناصر يوسف صاحب حلب منه حمص، بسبب تسليمه شميميس للملك الصالح أيوب، صاحب مصر وأنه يعوض عن حمص تل باشر، ثم أعاد هولاكو عليه حمص، فبقيت في يده حتى توفي في أواخر هذه السنة، وانتقلت حمص إلى مملكة الملك الظاهر بيبرس في ذي القعدة حسبما ذكره، وكان جملة من ملك حمص منهم خمسة ملوك، أولهم شيركوه بن شاذي، ملكه إياها نور الدين الشهيد، ثم ملكها من بعده ابنه ناصر الدين محمد بن شيركوه، ثم ملكها بعده ابنه شيركوه بن محمد، وتلقب بالملك المجاهد، ثم ملكها بعده ابنه إبراهيم بن شيركوه، وتلقب بالملك المنصور، ثم ملكها بعده ابنه موسى بن إبراهيم، وتلقب بالملك الأشرف حتى توفي هذه السنة، وانقرض بموته ملك المذكورين.

.ما وقع من أحداث سنة اثنتين وستمائة:

ثم دخلت سنة اثنتين وستمائة:
في هذه السنة قبض الأشكري صاحب قسطنطينية على عز الدين كيكاؤوس بن كيخسرو بن كيقباذ صاحب بلد الروم، وسببه أن عز الدين كيكاؤوس المذكور، كان قد وقع بينه وبين أخيه، فاستظهر أخوه علية، فهرب كيكاؤوس وبقي أخوه ركن الدين قليج أرسلان في سلطنة بلاد الروم، ثم سار كيكاؤوس المذكور إلى قسطنطينية، فأحسن إليه الأشكري صاحب قسطنطينية. وإلى من معه من الأمراء، واستمروا كذلك مدة، فعزمت الأمراء والجماعة الذين كانوا مع عز الدين المذكور على اغتيال الأشكري وقتله، والتغلب على قسطنطينية، وبلغ ذلك الأشكري، فقبض عليهم، واعتقل عز الدين كيكاؤوس ابن كيخسرو في بعض القلاع، وكحل الأمراء والجماعة الذين كانوا عزموا على ذلك، فأعمى عيونهم، وقد تقدم ذكر كيكاؤوس المذكور وأخيه قليج أرسلان في سنة ثمان وثمانين وخمسمائة.
وفيها في ثامن رمضان توفي الشيخ شرف الدين عبد العزيز بن محمد بن عبد المحسن الأنصاري، المعروف بشيخ الشيوخ بحماة، وكان مولده في جمادى الأولى سنة ست وثمانين وخمسمائة، رحمه الله تعالى. وكان ديناً فاضلاً متقدماً عند الملوك، وله النثر البديع والنظم الفائق، وكان غزير العقل، عارفاً بتدبير المملكة، فمن حسن تدبيره. أن الملك الأفضل علي ابن الملك المظفر محمود، لما ماتت والدته غازية خاتون بنت الملك الكامل رحمهما الله تعالى، حصل عند الملك الأفضل المذكور استشعار من أخيه الملك المنصور محمد صاحب حماة، فعزم على أن ينتزح من حماة ويفارق أخاه الملك المنصور، وأذن له أخوه الملك المنصور في ذلك، فاجتمع الشيخ شرف الدين المذكور بالملك الأفضل، وعرفه ما تعمده من السلوك مع أخيه الملك المنصور، ثم اجتمع بالملك المنصور وقبح عنده مفارقة أخيه، وما برح بينهما حتى أزال ما كان في خواطرهما، وصار للملك الأفضل في خاطر أخيه الملك المنصور من المحبة والمكانة ما يفوق الوصف، وكان ذلك من بركة شرف الدين المذكور، وللشيخ شرف الدين المذكور أشعار فائقة، قد تقدم ذكر بعضها، وكان مرة مع الملك الناصر يوسف صاحب الشام بعمان، فعمل الشيخ شرف الدين.
أفدي حبيباً منذ واجهته ** عن وجه بدر التم أغناني

في وجهه خالان لولاهما ** ما بت مفتوناً بعمان

وأنشدهما للملك الناصر، فأعجبته إلى الغاية، وجعل يردد إنشادهما، وقال لكاتبه كمال الدين بن العجمي، هكذا تكون الفضيلة، فقال ابن العجمي أن التورية لا تخدم هنا، لأن عمان مجرورة في النظم، فلا تخدمه في التورية، فقال الملك الناصر للشيخ شرف الدين ما قاله، فقال شرف الدين إن هذا جائز وهو أن يكون المثنى في حالة الجر على صورة الرفع، واستشهد شرف الدين بقول الشاعر:
فأطرق إطراق الشجاع ولو رأى ** مساغاً لناباه الشجاع لصمما

واستشهد بغير ذلك فتحقق الملك الناصر فضيلته.

.ما وقع من أحداث سنة ثلاث وستين وستمائة:

ثم دخلت سنة ثلاث وستين وستمائة:
ذكر فتوح قيسارية:
في هذه السنة، سار الملك الظاهر بيبرس من الديار المصرية بعساكره المتوافرة، إلى جهاد الفرنج بالساحل، ونازل قيسارية الشام، في تاسع جمادى الأولى، وضايقها وفتحها بعد ستة أيام من نزوله، وذلك في منتصف الشهر المذكور، وأمر بها فهدمت، ثم سار إلى أرسوف ونازلها وفتحها في جمادى الآخرة في هذه السنة.
ذكر موت هولاكو:
في هذه السنة، في تاسع عشر ربيع الآخر، مات هولاكو ملك التتر، لعنه الله تعالى. وهو هولاكو بن طلو بن جنكزخان، وكانت وفاته بالقرب من كورة مراغة، وكانت مدة ملكه البلاد التي سنصفها، نحو عشر سنين، وخلف خمسة عشر ولداً ذكراً، ولما مات، جلس في الملك بعده ولده أبغا بن هولاكو، واستقرت له البلاد التي كانت بيد والده حال وفاته، وهي: إقليم خراسان، وكرسيه نيسابور، وإقليم عراق العجم، وهو الذي يعرف ببلاد الجبل، وكرسيه أصفهان، وإقليم عراق العرب، وكرسيه بغداد، وإقليم أذربيجان وكرسيه تبريز، وإقليم خورستان وكرسيه تستر، التي تسميها العامة تشتر، وإقليم فارس وكرسيه شيراز، وإقليم ديار بكر وكرسيه الموصل، وإقليم الروم وكرسيه قونية، وغير ذلك من البلاد التي ليست في الشهرة. مثل هذه الأقاليم العظيمة.
ذكر غير ذلك من الحوادث:
في هذه السنة أو التي بعدها، أمسك الملك الظاهر بيبرس، زامل بن علي، أمير العرب، بمكاتبة عيسى بن مهنا في حقه. وفيها في رمضان، استولى النائب بالرحبة على قرقيسيا، وهي حصن الزباء التي تقدم خبرها مع جذيمة الأبرش في أوائل الكتاب، وفيه خلاف. وفيها قبض الملك الظاهر بيبرس على سنقر الرومي. وفيها توفي قاضي القضاة بمصر، بدر الدين يوسف بن حسن علي السنجاري.

.ما وقع من أحداث سنة أربع وستين وستمائة:

ثم دخلت سنة أربع وستين وستمائة:
ذكر فتوح صفد وغيرها:
في هذه السنة خرج الملك الظاهر بعساكره المتوافرة من الديار المصرية، وسار، الشام، وجهز عسكراً إلى ساحل طرابلس، ففتحوا القليعات وحلباً وعرقاً، ونزل الملك الظاهر على صفد، ثامن شعبان، وضايقها بالزحف وآلات الحصار، وقدم إليه وهو على صفد، الملك المنصور صاحب حماة، ولاصق الجند القلعة، وكثر القتل والجراح في المسلمين، وفتحها في تاسع عشر شعبان المذكور بالأمان، ثم قتل أهلها عن آخرهم.
ذكر دخول العساكر إلى بلاد الأرمن:
وفي هذه السنة بعد فراغ الملك الظاهر من فتوح صفد، سار إلى دمشق، فلما دخلها واستقر فيها، جرد عسكراً ضخماً، وقدم عليهم الملك المنصور صاحب حماة، وأمرهم بالمسير إلى بلاد الأرمن، فسارت العساكر صحبة الملك المنصور المذكور، ووصلوا إلى بلاد سيس في ذي القعدة من هذه السنة، وكان صاحب سيس إذ ذاك، هيثوم بن قسطنطين بن باسيل، قد حصن الدربندات بالرجالة والمناجنيق، وجعل عسكره مع ولديه على الدربندات، لقتال العسكر الإسلامي ومنعه، فداستهم العساكر الإسلامية، وأفنوهم قتلاً وأسراً، وقتل ابن صاحب سيس الواحد، وأسر ابنه الآخر، وهو ليفون بن هيثوم المذكور، وانتشرت العساكر الإسلامية في بلاد سيس، وفتحوا قلعة العامودين. وقتلوا أهلها، ثم عادت العساكر وقد امتلأت أيديهم من الغنائم، ولما وصل خبر هذا الفتح العظيم إلى الملك الظاهر بيبرس، رحل من دمشق ووصل إلى حماة، ثم إلى فامية، فالتقى عساكره وقد عادت منصورة وأمر بتسليم الأسرى، وفيهم ليفون بن صاحب سيس، وكان المذكور لما أسر، سلمه الملك المنصور إلى أخيه الملك الأفضل، فاحترز عليه وحفظه حتى: حضره بين يدي السلطان، ثم عاد إلى الديار المصرية على طريق الكرك، فتقنطر بالملك الظاهر المذكور فرسه، عند بركة زيزا، وانكسرت فخذه، وحمل في محفة إلى قلعة الجبل.
ذكر قتل أهل قارا ونهبهم:
وفي هذه السنة، عند توجه الملك الظاهر من دمشق، لملتقى عساكره العائدة من غزوة بلاد سيس، لما نزل على قارا بين دمشق وحمص، أمر بنهب أهلها وقتل كبارهم، فنهبوا وقتل منهم جماعة لأنهم كانوا نصارى، وكانوا يسرقون المسلمين ويبيعونهم بالخفية إلى الفرنج، وأخذت صبيانهم مماليك، فتربوا بين الترك في الديار المصرية، فصار منهم أجناد وأمراء.